حصل السيد احمد باهض تقي مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية على درجة الدكتوراه في العلاقات الاقتصادية الدولية وذلك عن أطروحته الموسومة (مستقبل الأمن الاقتصادي العربي في ضوء المتغيرات الإقليمية الراهنة) ولأهمية هذه الأطروحة فقد ارتأينا أن نضع أمام الباحثين والمهتمين ملخصا لها:
في خضم ظروف غاية في الأهمية، وبالغة الدقة، يمر بها العالم العربي والعراق تحديداً، في مرحلة يمكن القول عنها مرحلة تاريخية في كل متغيراتها، ستنعكس أن لم تكن قد انعكست على مجمل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية، وبالتالي فإن الفكر أي فكر كان، عندما يتصدى إلى قضايا حساسة فإن آليات التصدي وآليات التحليل سوف تكون نابعة من تلك البيئة الوليدة من رحم تلك الظروف .
تواجه البلدان العربية اليوم تحديات خطيرة تهدد الوجود العربي بأكمله، بعد أن واجهت تحديات الأمس بسبل وآليات ضعيفة، وبين الأمس
واليوم كان العرب بأنظمتهم السياسية المتباينة غير منظمين في المواجهة، فاختلفت بذلك آليات وسبل المواجهة، وبالمقابل كانت هناك علامات مضيئة لكنها سرعان ما تنطفئ في مسيرة عربية جاوزت النصف قرن، رافقها جهود وقرارات كان نصيبها رفوف وخزائن المؤسسات العربية .
ومن هنا برزت أهمية التصدي لموضوع ناقش البعض قليل من مكوناته الاقتصادية الفرعية وأهمل إلى حد كبير في أركانه الأساسية ألا وهو الأمن الاقتصادي، كما لم يتم الربط بين هذا الموضوع متعدد الجوانب وبين المتغيرات غير الاقتصادية من قبل، ولذلك فانه محاولة من الباحث للربط بين المتغيرات ذات الأهمية كالمتغيرات السياسية والمتغيرات العلمية والتقنية وبين الأمن الاقتصادي، ويأتي هذا الربط كنتيجة طبيعية للتطورات التي شهدها العالم في العقدين الأخيرين، والتي جعلت التداخل كبيراً جداً بين المتغيرات المختلفة مع بروز دور العامل الاقتصادي.
بدءاً فقد افترضت الدراسة فرضية في غاية البساطة إلاّ إن مدلولاتها كبيرة ألا وهي (إن تردي المؤشرات التي تعبر عن المتغيرات المؤثرة في الأمن الاقتصادي العربي سيعمل على تقويض الأمن الاقتصادي العربي في ظل متغيرات إقليمية لا تعمل في صالح تعزيز ذلك الأمن) .
كما إن الدراسة سعت إلى تحقيق عدد من الأهداف من خلال استخدامها لمناهج متنوعة في البحث إذ تم استخدام المنهج الوصفي، ومنهج التحليل النظمي، والمنهج ألاستشرافي الاحتمالي .
وتوزعت تلك المناهج على فصول الأطروحة لتحقيق تلك الأهداف، فالأطروحة بمجملها تكونت من خمسة فصول فضلا عن مقدمة وخاتمة واستنتاجات وتوصيات.
حاول الباحث في الفصل الأول وضع إطار نظري يمكن العمل من خلاله وصولا إلى تحديد مفهوم شامل وواضح للأمن الاقتصادي العربي، لذلك تمت مناقشة تطور مفهوم الأمن بشكل عام والأمن القومي ومدى اقتراب حلقتي الأمن القومي والأمن الاقتصادي من بعضهما في ظل التطورات الاقتصادية العالمية والثورة التكنولوجية الحديثة .
كما تمت مناقشة البيئة الاقتصادية الدولية من خلال الجهد الدولي الذي سعى إلى إقرار مفهوم الأمن الاقتصادي في العلاقات الاقتصادية الدولية لتعطي انطباعاً في أية بيئة عمل العرب في سعيهم لتعزيز الأمن الاقتصادي في البلدان العربية أجمع .
أما الفصل الثاني فهو يأتي محاولة يراها الباحث مهمة جداً لربط المتغيرات السياسية البارزة في عالم اليوم بموضوع الأمن الاقتصادي لكونه لا يتحدد فقط بالمتغيرات الاقتصادية، فكانت هناك مجموعة من المتغيرات السياسية مثل إدارة الحكم وحقوق الإنسان والحركات السياسية والمدنية والمشاركة السياسية، تلك المتغيرات التي انبئتنا عن واقع سياسي جلّه متردي إلى حد بعيد في اغلب مؤشراته .
ولذلك فإن ما متوقع من تعزيز وترصين وتأثير إيجابي لتلك المتغيرات السياسية في الأمن الاقتصادي العربي بشكل عام كان في حقيقته سلبياً .
أما المتغيرات الاقتصادية فلم تكن بأحسن حال من المتغيرات السياسية لذلك جاءت أغلب مؤشراتها لتعبر عن الواقع الاقتصادي العربي المتنافر والمتباين والمفكك ذلك الواقع الذي يرتبط بصورة قوية في المحيط الاقتصادي الدولي، ونراه متقطع الأوصال مع محيطه الاقتصادي العربي، فضلاً عن أن التحديات فيه خطيرة، فالاستثمارات والأموال العربية تهرب إلى خارج البلدان العربية والاستثمار الأجنبي متردد في الدخول إلى البلدان العربية، والتجارة العربية البينية ضعيفة لا تتجاوز 10% في اغلب السنوات.
كما إن تهديدات المياه والغذاء كبيرة ومركبة ومعقدة فضلاً عن أن التحليلات الشمولية للمتغيرات الإقتصادية الرئيسية تؤكد على عمق المشكلات المتأصلة والمزمنة في الاقتصاد العربي.
وهناك حقيقة أكدت عليها الدراسة ألا وهي الارتباط الكبير بين العوائد النفطية والاقتصاد العربي بمجمله، فالبلدان العربية تعيش مفارقة كبيرة من خلال انقسامها إلى بلدان نفطية وأخرى غير نفطية، وما لذلك من انعكاسات كبيرة.
أما الفصل الرابع فقد تناول المتغيرات العلمية والتقنية ومدى علاقتها بالأمن الاقتصادي، وقد تم انتقاء عدد من المؤشرات التي توضح تلك العلاقة لكي تعبر وبشكل جلي عن الواقع العلمي والتقني العربي الذي هو ركن أساس ومتطلب حيوي من متطلبات تعزيز الأمن الاقتصادي، فكانت النتائج متردية في أهم حلقات الواقع العلمي والتقني ألا وهو البحث والتطوير، وجاءت البلدان العربية في المواقع الخلفية بين بلدان العالم في هذا المجال، كذلك الهجرة الكبيرة والمستمرة للكفاءات العلمية العربية إلى خارج البلدان العربية وما لذلك من نتائج سلبية في هدر الإمكانات، كذلك فإن المؤشرات الأخرى قد عبرت عن ذلك الواقع الذي لم يكن حتى ضمن الحدود المقبولة بين حتى البلدان النامية.
أما الفصل الخامس، فقد تناول المتغيرات الإقليمية ومدى انعكاسها على الأمن الاقتصادي العربي، وقد تم اختيار متغيرين يراهما الباحث في غاية الأهمية في عصرنا الراهن، الأول المتغير العراقي الذي برز بشكل واضح وجلي منذ عام 1990 حتى حصل الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان 2003 وما لذلك الاحتلال من تداعيات على الوضع في العراق والبلدان العربية، وقد حاول الباحث رصد تلك التداعيات والانعكاسات لهذا المتغير على الأمن الاقتصادي العربي باعتبار إن العراق ومنذ أكثر من نصف قرن كان عضواً فعالاً في العمل العربي المشترك.
أما المتغير الثاني فقد كان العمل الاقتصادي العربي المشترك الذي وصل إلى طرق مسدودة في العقد الأخير من القرن العشرين ولم يتبقى منه على الأغلب سوى منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى التي جاءت كرد فعل للشعور بالمخاطر الجسيمة التي تواجهها البلدان العربية أجمع أمام التطورات الاقتصادية العالمية التي اجتاحت العالم وقد تناولت الدراسة انعكاسات تلك المتغيرات على الأمن الاقتصادي العربي، وهل إن الجهود العربية في إطار العمل الاقتصادي العربي المشترك قد أفضت إلى تعزيز ذلك الأمن .
وقدمت الدراسة ثلاثة رؤى مستقبلية يرى الباحث إن في إحداها سوف يكون المشهد المستقبلي للأمن الاقتصادي العربي،الأول هو مشهد الاستمرارية وهو استمرار الاختراق والانكشاف في الأمن الاقتصادي العربي في ضوء استمرار الأوضاع الراهنة.
أما المشهد الثاني وهو تعمق الاختراق والانكشاف في ضوء ازدياد تدهور الأوضاع الراهنة.
أما المشهد الثالث فهو مشروع الاستقلالية عبر بناء المشروع العربي القائم على التعاون بين البلدان العربية.
ولعل أهم نتيجة توصلت إليها الدراسة هي إن المشكلة ليس في عدم توفر الإمكانات العربية أو نقصها وإنما المشكلة تكمن في عدم القدرة في توظيف تلك الإمكانات والسبب هو تخلف الأنظمة السياسية العربية وجمودها فضلاً عن الاستبداد الذي تمارسه تجاه مجتمعاتها مما خلق شعوراً بالإحباط وقتل الإبداع والحريات في عالم يتجه بسرعة نحو تعزيز الممارسات الديمقراطية وفي كافة المجالات .