الرجوع للعدد الثالث
حفظ هذا المقال فقط
يعد الكاتب الفرنسي الكبير البير كامو أكثر الكتاب الفرنسيين شهرة في القرن العشرين، فرواياته(الغريب 1942)، و(الطاعون 1947) هي روايات مقروءة جداً في المدارس، ولكن كامو ليس روائياً فقط بل كتب الكثير من المقالات حلل فيها المشاكل السياسية والآيديولوجية لعصره وحدد موقفه منها وهذا ما فعله في مقالته التالية التي نُشرت عام 1948 في صحيفة كاليبان Caliban .في ذلك الحين كانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت للتو أوزارها، وبعد أن عانى الفرنسيون خمسة أعوام من الاحتلال الألماني بدأوا يتطلعون إلى ما ستؤول إليه فرنسا المحررة، وقد بدا لهم بأن اللعبة السياسية قد تغيرت وبدأوا يرنون إلى ديمقراطية حقيقية، كل الآمال أصبحت على وشك التحقيق، الحرية والعدالة ستتحولان إلى واقع، لكن في عام 1948 حلت خيبة أمل، فقوى اليمين لا ترغب في تغيير سياســي واجتماعي حقيقي، أما الشيوعيون فلم يشغلهم إلا مناهضة الرأسماليين ويعتقدون إن في ذلك يكمن الحل الأساس لكل المشاكل، وفي هذه المقالة حول الديمقراطية يطرح كامو الأسباب التي جعلته يعارض مختلف الاتجاهات. 

    لأنه لا يوجد موضوع برأيي أهم من موضوع الديمقراطية فأنني دائم التفكير فيه وكثيراً ما يحصل ذلك في المترو.نحن نعلم بأن غموضاً يكتنف هذا المفهوم المهم، ولأنني أحب كثيراً أن أناقش هذا الموضوع مع اكبر عدد ممكن من الناس فأنني في الوقت نفسه ابحث عن تعريفات ملائمة ومقبولة لهؤلاء الناس. لكن هذا ليس عملاً سهلاً ولا ازعم بأني نجحت تماماً في هذا المسعى، ولكن يبدو لي أني توصلت إلى بعض المفاهيم التقريبية النافعة، ولكي أكون موجزاً، هذا واحداً من هذه المفاهيم:

(إن الديمقراطية هي الممارسة الاجتماعية والسياسية للاعتدال والتواضع)

    في الحقيقة هناك نوعين من المفاهيم المضادة (للديمقراطية)، (مثلما  يتوجب علينا توضيح كل شيء دعونا نطلق صفة "المضاد" على كل موقف يهدف إلى التكريس المستمر للتبعية و العبودية السياسية والاقتصادية التي تثقل كاهل الناس)، هذان المفهومان يسيران في اتجاهين متضادين ولكنهما يشتركان في التعبير عن حقيقة مطلقة .

المفهوم المضاد الأول يقول (لا يمكننا تغيير الناس)، ويخلص إلى القول بأن الحروب حتمية وان العبودية الاجتماعية موجودة في طبيعة الأشياء شئنا أم أبينا، فلنترك لحملة السلاح عملية إطلاق النار ولنعتن بحدائقنا المنزلية (والحقيقة إن المقصود بالحدائق المنزلية هو الأملاك الخاصة).

     في المسرحية الهجائية الاجتماعية لفولتير عام 1759 يقترح  البطل في نهاية المسرحية إن لا يهتم ولا يعتني إلا بأموره الخاصة فقط وبقي في منزله يعتني بحديقته المنزلية فقط، وفي هذا المقال يرى كامو إن الأغنياء وأصحاب الأملاك عندما يساندون هذا الرأي إنما يحاولون الابتعاد عن المواقف السياسية المساندة للديمقراطية حفاظاً على مصالحهم، أما المفهوم المضاد الثاني فيقول (إن تغيير الناس وتحريرهم ممكن ولكنه يعتمد على المبدأ الذي ينتهجونه لذلك يتوجب عليهم أن يتحركوا وفق هذا المبدأ وبثبات كي يحصلوا على النجاح)، إذن نستطيع أن نستنتج بأنه من المنطقي قمع هؤلاء:

1- الذين لا يؤمنون بأن هناك تغيير ممكن.

2- الذين لا يتفقون مع هذا المبدأ.

3- الذين يتفقون مع هذا المبدأ ولكنهم يعترضون على الوسائل .

4- وبشكل عام كل أولئك الذين يرون بأن الأشياء ليست سهلة كما ينبغي.

وبالنتيجة نحصل على محصلة تعادل ثلاثة أرباع الناس!

    في كلتا الحالتين نجد أنفسنا أمام تبسيط متعمد للمسألة،في الحالتين هناك إدخال للترسيخ  وللحتمية المطلقة في الواقع الاجتماعي، لكنهما  لا يجدا فيه طريقهما كما ينبغي، في كلتا الحالتين يشعر المرء بقناعة تامة لصنع التاريخ وفق هذه المبادئ، بقناعة تامة لتبرير الألم الإنساني أو لتعميقه هذه الأفكار المختلفة جداً والتي تنصب قناعتها كذلك على محاربة تعاسة الآخرين أرى أنها تستحق الإعجاب، ولكن يجب علينا على الأقل أن نسميها بمسمياتها  وان نتحدث عن ما تستطيع أو لا تستطيع فعله، أنا أرى إن هذه الأفكار مغرورة بما يكفي، فهي ربما تتمكن من الوصول لأي شيء لكن لا يمكن لها الوصول إلى التحرير الإنساني و إلى الديمقراطية الحقيقية، هناك كلمة لسيمون ويل Simone Weil كانت شجاعة في قولها ولها الحق في كتابتها سواء في حياتها أو بعد موتها،تقول سيمون ويل:(من هذا الذي يمكن له أن يُعجب بالأسكندر الأكبر من كل قلبه إن لم تكن نفسه وضيعة)، نعم فمن يستطيع أن يضع في كفة واحدة الاكتشافات الكبيرة للعقل البشري و الغزوات الكبيرة للقوة وما تسببه من معاناة كبيرة للبشر، إن لم يكن ذو قلب خالي من العاطفة وعقلاً بعيداً عن كل عدالة.

    لذلك يبدو لي إن الديمقراطية سواء كانت اجتماعية أم سياسية لا يمكن لها أن تتأسس على فلسفة سياسية تدعي معرفة كل شيء و تنظيم كل شيء، مثلما لم تستطع أن تتأسس لحد الآن على الأخلاق المحافظة المطلقة. فالديمقراطية ليست أفضل الأنظمة ولكنها الأقل سوءاً،نحن جربنا تقريباً كل الأنظمة ولكن النظام الديمقراطي غير مُصمم ولا مُكتشف ولا مسنود إلا من قبل أناس لا يدَعون بأنهم يعرفون كل شيء وأنهم يرفضون الوضع البروليتاري ولا يرضون أبداً عن بؤس الآخرين، ويرفضون تعميق هذا البؤس باسم نظرية ما، أو باسم نهج مسيحي عقيم.

    إن رجعية النظام القديم تدَعي بأن العقل لا يمكن له حل أي شيء، أما رجعية النظام الجديد فأنها ترى بأن العقل يحل كل شيء، أما الديمقراطي الحقيقي فأنه يرى بأن العقل قادر على معالجة عدد كبير من المشاكل ويستطيع إن يحل منها الكثير لكنه لا يعتقد بأن سلطة العقل يجب أن تحكم العالم كله كسلطة وحيدة، وبالنتيجة فأن الديمقراطي هو إنسان معتدل ومتواضع، فهو يعترف بجانب عدم المعرفة عنده وبجانب بعض المغامرة في أنشطته و يعترف بأنه لم ُيعطِ العلم كله، وانطلاقاً من هذا الاعتراف فأن الديمقراطي يجد انه بحاجة دائمة لاستشارة الآخرين وإن يُكمل ما عنده من معرفة بما عند الآخرين من معرفة، ولا يجد عنده من سلطة إلا بقدر ما يفوضه الآخرون بها واتفاقهم حوله، وأي قرار يريد أن يتخذه بشأن الآخرين يعرف أن الآخرين من الممكن أن ينظروا إليه بشكل مختلف ويمكن أن يعدلوه، وبما إن النقابات وجدت للدفاع عن حقوق العمال فالديمقراطي يعلم بأن أعضاء النقابات وبمداولة آرائهم لهم كل الحق في تبني النهج الأفضل .

    الديمقراطية الحقيقية ترجع دائماً إلى الجماهير لأنها  تفترض بأنه لا توجد حقيقة مطلقة في نظامها  وبان الكثير من تجارب الشعب المتراكمة تمثل اقترابات من الحقيقة أكثر دقة من مذهب متماسك لكنه مزيف. فالديمقراطية لا تدافع عن فكرة مجردة و لاعن فلسفة متألقة بل هي تدافع عن الناس الديمقراطيين وتدعوهم لاستخدام وسائلهم الخاصة لدعم دفاعهم.

    إني افهم تماماً بأن المفهوم الحذر جداً لا يمضي دون مخاطر واني افهم جيداً بأن الأغلبية يمكن لها  أن تخطأ  في الوقت الذي تكون فيه الأقلية هي التي على الصواب، ولكننا يجب أن نقارن بين المخاطر الناجمة عن هذا المفهوم و بين المخاطر الناجمة عن الفلسفة السياسية التي تُخضِِِِع كل شيء لها، فمن اجل إنجاح هذه التجربة يجب أن نتحمل الخسارة الطفيفة في السرعة أفضل من الاستسلام  للسيل العارم، وبقي أن أقول بأن الاعتدال  يُقر بسماع آراء الأقلية، و لهذا السبب أنا أقول بأن الديمقراطية هي اقل أنظمة الحكم سوءاً .

    انطلاقاً من ذلك يمكن لي القول انه لا يمكن تسوية  وتنظيم كل شيء، لذلك فأن هذا التعريف ليس تعريفاً نهائياً وشافياً ولكنه يسمح لنا بتفحص المشاكل التي ترهقنا وتربكنا بأسلوب شفاف و دقيق، هذه المشاكل التي لو تُركت  فأنها سوف تنزع باتجاه فكرة الثورة ومفهوم العنف، ويسمح لنا هذا التعريف كذلك بمنع إعطاء الحق للأموال وللبوليس في إطلاق تسمية الديمقراطية على ما هو ليس  بديمقراطي، نحن نسمع كل يوم الكثير من الأكاذيب في وسائل الأعلام التي هي عارُ على هذه البلاد (فرنسا)، وكل فكرة أو كل تعريف يخاطر بإضافة المزيد على هذه الأكاذيب أو مساندتها هو اليوم مرفوض، ونحن اليوم إذ نقوم بتعريف بعض المفاهيم الأساسية و توضيحها و ذلك من اجل أن تكون في الغد فعَالة ومؤثرة، وبذلك نكون قد عملنا على تحرير الإنسان وقمنا بإتمام مهمتنا .


عنوان المقال باللغة الفرنسية:
La Democratie, exercice de la modesti…….Albert Camus
Decouverte  de l'essai....Sara Lawall ….Christian Garand …Mireille Azibert
Traduit    par   Ala   Shatnan
Translated  by  Ala  Shatnan

الديمقراطية : ممارسة الاعتدال والتواضع
تأليف : البير كامو / كاتب فرنسي معروف
ترجمة :علاء شطنان / مترجم لغة فرنسية/ جامعة بغداد