الاستفتاء الدستوري ورهان الديمقراطية في العراق
الرجوع للعدد الثاني
حفظ هذا المقال فقط
الاستفتاء معناه اخذ رأي الشعب في موضوع ما، يمس حياتهم ,وهو من حيث الموضوع قد يتعلق بنص دستوري فيسمى استفتاءً دستورياً وقد يتعلق بنص قانوني عادي فيسمى استفتاءً تشريعياً , وأحيانا أخرى يتعلق بأخذ رأي الشعب في شخص الرئيس فيسمى إسترآساً أو في اتجاه سياسي تتبناه الحكومة فيسمى الاستفتاء السياسي .

    لكن إذا نظرنا إلى الاستفتاء من حيث الأثر فقد يكون استفتاءً تأسيسياً يترتب عليه إنشاء دستورٍ جديدٍ للبلاد,  كما هو الحال في دستور الولايات المتحدة الأمريكية  ودستور إيران لعام 1979, وكما هو مؤمل لدستور العراق القادم,أو يكون تعديلي أي انه يقتصر على تعديل بعض مواد الدستور .

    أما إذا نظرنا إلى الاستفتاء من حيث الإلزام , فهو قد يكون استفتاءً إلزامياً, بمعنى إن الدولة ملزمة بالرجوع إلى الشعب في موضوع التعديل أو يكون الاستفتاء إختيارياً كما هو الحال في دستور فرنسا لعام 1958 الذي خير الحكومة بين تعديل الدستور من خلال البرلمان أو التوجه إلى الشعب مباشرةُ.

إن هذه الأنواع من الاستفتاءات لن يكتب لها النجاح مالم تتوفر فيها شروط عدة أهمها هي :-

  1.    توفير الأرضية الصالحة لإجراء الاستفتاء,ونعني بذلك إن يجري الاستفتاء في أجواء ديمقراطية وبدرجة عالية من الشفافية والنزاهة  والحيادية وابتعاد الحكومة عن الوسائل التي من شأنها إن تؤثر على صدق نتائج الاستفتاء .

  2.    توفير مستوى جيد من الثقافة السياسية لدى أفراد الشعب يسمح بتوفير رأي عام مشارك يستطيع تجنب أساليب قيادته الى نتائج لا تحترم مصالحه.

الآلية المناسبة لإجراء الاستفتاء :
  الاستفتاء قد يكون أجماليا أي تكون الإجابة فيه بنعم أو لا وغالبا ما يكون هذا الأسلوب ناجحا ومجديا في الحالات البسيطة والموضوعات الموجزة ,كتلك المتعلقة بتقرير المصير او اتجاه سياسي تنوي الحكومة سلوكه,لكن قد يكون الاستفتاء تفصيليا تكون الإجابة فيه أكثر دقة بحيث يطلب رأي المواطن في كل بند من بنود مسودة القانون المعروضة أمامه,إن هذا الأسلوب يكون مجديا في الحالات التي تتصف بكثر التفاصيل, كما هو الحال في الاستفتاء على مسودة الدستور اوقانون عادي إذ انه يوفر تشخيصا دقيقا لمواطن الرفض في القانون المستفتى عليه مما يسهل معالجتها وتلافيها , لكن يبدو إن ما يثيره الأسلوب الأخير من صعوبات عملية جعلت معظم الدول تفضل الأسلوب الأول دون الثاني .
لكن قد ترى بعض الدول اعتماد آلية أخرى في الاستفتاء تتمثل بأخذ رأي الشعب بالأفكار الرئيسة التي تهيمن على  مشروع الدستور أو القانون موضوع الاستفتاء دون الدخول في تفصيلاته, لقد تبنى واضعوا دستور  الجمهورية الرابعة في فرنسا هذا النمط من الاستفتاء .

أهمية الاستفتاء :
  إن أهم مواطن قوة أسلوب الاستفتاء انه صورة جلية للديمقراطية المباشرة يؤدي الأخذ بها إلى تحقيق نتائج عدة هي :-
     1.  إن إشراك المواطن في العملية القانونية والسياسية للبلد يغرس في نفسه شعورا عاليا بالمسؤولية وحرصا على طاعة القوانين التي ساهم في وضعها , فهو أولى من غيره باحترام القانون الذي وضعه بنفسه .

     2.    إن الاستفتاء يكرس مبدأ السيادة الشعبية من خلال اللجوء إلى الشعب واخذ رأيه في موضوع معين .

    3.  انه ينمي الثقافة القانونية لدى المواطن , لان زجه في العملية التشريعية يوجب عليه التعرف على المبادئ القانونية التي تمكنه من إبداء الرأي الصحيح.

كيف نستثمر أسلوب الاستفتاء ؟
إن ما يترتب على الاستفتاء من نتائج ايجابية تدفعنا إلى القول إن العراق الجديد الذي يراد له إن يكون ديمقراطيا لابد إن ياخذ باسلوب الاستفتاء في عدة مواطن أهمها هي :

1.    وضع الدستور :
تعد هذه الطريقة أكثر الطرق ديمقراطية كونها تعتمد على الشعب صاحب السلطة الأصيل,ومضمونها  إن توضع مسّودة الدستور في أي جهة كانت فردا أم لجنة ثم تعرض على الشعب لتكون له الكلمة الفصل في قبول الدستور أو رفضه, لكن هذه الطريقة تكون جيدة وفاعلة كلما كان الشعب على درجة عالية من الوعي السياسي بحيث يكون بمجموعه رأيا عاما مستنيرا له القدرة على تقديم الرأي الصحيح وتضعف أمامه فرص التأثير على رأي الشعب,وبخلاف ماتقدم يكون تقييم العمل المطروح للاستفتاء عرضة لتأثير التيارات والاتجاهات المختلفة,وبذلك يتحول الشعب من قائد فاعل إلى منقاد منفعل,وفي تلك الحالة يفرغ الاستفتاء من محتواه ويتحول من أسلوب ديمقراطي إلى صورة من صور استغفال الشعب وخداعه . إن المخاوف المتقدمة يجب إن لا تدفعنا إلى نبذ الاستفتاء بل يمكن الاستفادة منه إذا ضممنا إليه طريقة أخرى تتمثل بانتخاب جمعية تتبنى وضع الدستور ثم يصوت عليه بعد ذلك من قبل الشعب,أي إن الدستور سوف يعرض على الشعب مرتين,الأولى من خلال ممثليه  في الجمعية والثانية عن طريق الاستفتاء,وذلك كفيل بتبديد المخاوف التي قد ترافق عرض الدستور على الاستفتاء .

2.    تعديل الدستور:
من الأمور المهمة التي لا تقل عن وضع الدستور نفسه مسألة تعديله , فنحن إذا أنطنا مهمة وضع الدستور بالشعب فمن الأفضل وفقا لقاعدة توازي الأشكال إن يعدل الدستور بالطريقة ذاتها التي وضع على أساسها ونعني بها الاستفتاء,فلا يوجد أفضل من اخذ رأي الشعب وهو صاحب الاختصاص الأصيل في مسالة تعديل الدستور,فضلا عما يمثله من ضمانة مهمة تحول دون تعديل الدستور وفقا لرغبات الحاكم أو استجابة لمؤثرات معينة خارجية أو داخلية لا تصب في مصلحة الشعب .

3.    تشريع القوانين العادية:
تشريع القوانين هي المهمة الرئيسة للسلطة التشريعية ممثلة بالبرلمان,لكن الدساتير قد تجعل الشعب شريكا فاعلا في هذه العملية وذلك من خلال عدة صور يمكن إيجازها في الأتي:

1.      إن مهمة اقتراح القوانين قد تناط بأكثر من جهة,لذا فمن الأفضل إن نمنح الشعب هذه الفرصة من خلال منحه وبنسبة معينة من عدد أفراده يحددها الدستور حق اقتراح القوانين ورفعها مباشرة إلى البرلمان لغرض النظر فيها وقول كلمته الفصل.

2.     بعض الدساتير جعلت من الشعب صاحب الرأي الأخير في إقرار مشروع القانون أو رفضه,كما هو الحال في دستور فرنسا النافذ لعام 1958 الذي أجاز لرئيس الدولة اللجوء إلى الشعب مباشرةً لأخذ رأيه في قوانين معينة تتعلق بموضوعات حددها الدستور على سبيل الحصر.
بعض الإشكالات المتعلقة بالاستفتاء والطرق معالجتها :
هناك بعض الملاحظات التي يجب إن ينظر لها بعين الاعتبار عند اللجوء إلى أسلوب الاستفتاء, كما إن هناك موضوعات يجب إن يكون بعيدا عنها.

       1.   مسألة الأغلبية: من أهم الأمور التي تساهم في تحديد صدق الاستفتاء من عدمه مسألة الأغلبية المطلوبة لتحديد نتائج الاستفتاء وفيما إذا كانت ايجابية أو سلبية .

إن تحديد هذه الأغلبية يتوقف على بيان مقدمات عدة أهمها هي:
‌أ-   نسبة المشاركة في الاستفتاء: أحيانا ونتيجة لكثرة المشاركات السياسية المطلوبة في الفرد أو لقلة حرصه السياسي قد تكون نتيجة المشاركة بالاستفتاء منخفضة وقد تصل إلى 30 % أو اقل من مجموع أفراد الشعب السياسي,مما قد لايعكس رأي الشعب الفعلي في الموضوع المستفتى عليه .
‌ب-   طبيعة الموضوع المستفتى عليه: إن لخطورة موضوع الاستفتاء وحساسيته دورا في تحديد الأغلبية المطلوبة,فمثلا وضع الدستور أو تعديله موضوعات ذات درجة عالية من الخطورة والأهمية,الأمر الذي يدفعنا إلى التعامل معها بحذر في حالة ما إذا اعتمدنا الاستفتاء طريقا لها.
‌ج-  الإعلام الموجه: إذا اعتمدنا التقييم التقليدي للرأي العام الذي يقسمه إلى رأي عام مستنير ورأي عام منقاد ورأي عام قائد,فإننا سنجد بلا شك إن الرأي العام المنقاد يشكل نسبة لا يستهان بها في كل بلد التي من الممكن إن تؤثر على نتيجة الاستفتاء بالشكل الذي تريده الأطراف التي توجهه إعلاميا.

    إن المقدمات  السابقة تجعلنا نتعامل مع مسألة الأغلبية بتوجس شديد سيما في بلد كالعراق مازال يحبو على طريق الديمقراطية, لذا فمن الأفضل إن تكون الأغلبية المطلوبة هي أغلبية الثلثين, سواء أكان على مستوى مجموع الشعب أم مجموع أقاليمه في حالة الدولة الفيدرالية,ولا يجوز وضع أي قيد على هذه الأغلبية مهما كانت طبيعته أو صورته  وبغض النظر عن الأسباب التي تقف وراءه, فالعراق في رهانه الجديد لن يكتب له النجاح ما لم يوفر للديمقراطية مقوماتها التي من أهمها الإيمان بها من خلال احترام رأي الأغلبية.
    لكن يلاحظ إن القانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية قد وقع في المحذور من خلال تقييده نجاح الاستفتاء على دستور العراق القادم بضرورة موافقة ثلثي ثلاث محافظات وان حظي بموافقة ثلثي أفراد الشعب,إن هذا التوجه إجهاض لفكرة الديمقراطية سيؤدي إلى نتائج وخيمة تعود على الشعب لذلك يجب على ممثلي الشعب تعديل هذه الفقرة بالشكل الذي يعيد للأغلبية قيمتها وحقها في رسم معالم دستور العراق القادم.

          2.     تسييس الاستفتاء : إضافة إلى صور الاستفتاء المذكورة فانه قد يأخذ منحنى أخر ونعني الاستفتاء السياسي الذي يتضمن أخذ رأي الشعب في شخص الرئيس وهو ما يسمى      (الإسترآس) أو في اتجاه سياسي تتبناه الحكومة,إن جرّ الاستفتاء إلى هذه الموضوعات يخرجه من طابعه التقليدي المتعلق بالجانب التشريعي ويدخله في خضم الواقع السياسي الذي لايتوانى ساسته عن استخدام فكرة الاستفتاء معبرا لتحقيق غاياتهم أو على الأقل لإملاء تصوراتهم التي يؤمنون بها,مما يجعله وسيلة لتكريس الدكتاتورية وإلباسها ثوب  الديمقراطية,لذلك يجب أن يكون الاستفتاء في نظامه ابعد ما يكون عن الموضوعات السياسية كي نغلق بابا قد يشكل وجها سيئا للاستفتاء .

عامـر زغير الكعبي
رئيس القسم القانوني في مركز الفرات