تحديات التنمية الأقتصادية وخطاب الدافع السياسي والاستعراضي

    رغم اسراف المقالات الصحفية في وصف الأقتصاد العراقي بالبؤس لكنها لا تستدعي الى وعي القرّاء إمكانات وحدود النمو الأقتصادي، كما بينتها تجربة العالم في العقود الأخيرة، ومسيرة كفاح الشعوب التي وصلت الى الصدارة في صناعة الحضارة المعاصرة. لتضع الناس عند مسؤوليتهم الجماعية عن مصيرهم المشترك، ومستقبل احفادهم، وما ينتظرهم من كد وعناء مشرّف من اجل الأرتقاء.

  ومن الواضح لمن اهتم بالتاريخ الأقتصادي، الكمي والوقائعي، صعوبة تلك المهمة وخاصة تجاوز ما يسمى شرك الدخل المتوسط نحو عتبة التحول والتوسع في التصنيع. إذ لم تنجح سوى بضعة دول، بعد الحرب العالمية الثانية، في الانتقال الى فئة الأقتصاد المصنّع في سياق تحديث شامل وتنوع وتكامل القدرات الأنتاجية على الصعيد الوطني. والى جانب الصحافة ووسائل التواصل الجديدة وقبلها، دأبت معظم الكتابات ذات القبول الواسع على صرف الأذهان عن معضلة التنمية الأقتصادية بذاتها عبر احالتها الى الجدل حول مستقبل حقوق الملكية والصيرورة الطبقية نحو نقاء ثنائي متصور منطقيا دون استقراء يؤيد مصداقيته. والدعوة الى استكمال الحداثة، شرطا للتحول، والتي بقيت غامضة في مضمونها سوى استنساخ ثقافة بعينها وتعميمها.  وقد أحبطت بالفعل محاولات التوافق على  سيناريو لمستقبل الأقتصاد، وبقيت التنمية تُعلّل باسباب ماوراء الواقع المعروف ومن ابرزها الطبيعة الجوهرية المدّعاة  للعالم عندما صار رأسماليا  منذ بداية القرن السادس عشر والى أمد قادم بعيد لا تُعرف نهايته؛ أو إنتظار تغيّر كبير في الخارطة السياسية للمنطقة ومنه اندماج الدول العربية في دولة واحدة؛ أو إعادة إكتشاف الأسلام الصحيح؛ او، في نظر آخرين، لحين التخلص من الأسلام السياسي، وفي نفس الوقت ترويجهم لفلسفات سيّست كل شيء، ونزعت الشرعية عن كل انجازات وأنشطة الوجود البشري وجميع اصناف المعرفة والفنون والآداب. هذا إضافة على عوامل تخص العراق كأنها ميتافيزيقية في أصلها وإن كانت في ظاهرها من الجغرافية الطبيعية ومنها دجلة والفرات، سبب الأستبداد الشرقي، والنفط مصدر الريع الخبيث، وموقع العراق في الجغرافية السياسية، واتفاقية سايكس بيكو التي جعلته دولة وهو في العهد العثماني ثلاث ولايات وليس ولاية واحدة. وكأن كافة اعضاء الأمم المتحدة وعددها 193 دولة، 143 منها تأسست بعد الحرب العالمية الثانية، كانت دولا قائمة ضمن حدودها الحالية منذ أواخر العصر الحجري القديم، إلاّ العراق. وفي العراق سنّة وشيعة وعرب واكراد، وقوميات واديان أخرى، دون تنبيه المتلقي أن في بقية الدول أديان ومذاهب وقديسين وقوميات أيضا.

وتجري المبالغة، عادة، بالنزاع بين العراق وجيرانه، دون لفت الانتباه الى نزاعات العديد من بقية الدول مع جيرانها وهي عنيفة ومتكررة. وعلى سبيل المثال بريطانيا وفرنسا والمانيا، وكل الدول الأوربية تقريبا، تتضاءل أمامها نزاعات العراق مع جيرانه قديما وفي الزمن الحاضر. الم تكن لتركيا نزاعات مع جيرانها، ولروسيا حروبها وغيرها. اليست حدود الدول مرسومة بالدماء وهي خلاصة تاريخ طويل من الغزو والأحتلال وحروب التحرير أو احتلال آخر ... وهكذا. هل من الموضوعية تناول مشكلات العراق دون مقارنة، وهي المنهج الذي لا بديل عنه في السياسة والعلاقات الدولية والنزاعات الأهلية وسواها. الأستاذ او الخبير في السياسة والعلاقات الدولية، الأجتماع أو الأقتصاد، له ان يتحزّب او ينشط سياسيا او في منظمات المجتمع المدني، وربما هو شاعر أو فنان. لكن ليس له ولا من دعاه ان يقدمه للناس خبيرا، محللا، في الأقتصاد او السياسة وهو يدلي بانطباعات ويعبرعن مشاعر بصفته الشخصية او الحزبية أو لأظهار براعته الأدبية او رغبته في التفلسف في منتدى لا يحضره الفلاسفة أهل الأختصاص بل متلقّي بريء لم يسمع بالأبستمولوجيا والحدود المحترمة أكاديميا لأصناف المعرفة. في العراق تمس الحاجة للانضباط المنهجي، ولو على حساب التضحية ببعض الحريات الشخصية اخلاصا للحقيقة، وهي قيمة عليا، ممن إستؤمن عليها بصفته خبيرا او استاذا ... مفكرا ... هذا انفع للناس وأحفظ لأمنهم ودمائهم.

  العدالة الأجتماعية ضرورة عملية واخلاقية، ومثلها مكافحة الفساد، لكن لماذا تصادر التنمية الأقتصادية بدعوى الأهتمام بالعدالة والنزاهة؛ أو استبدالها ب التنمية البشرية المستدامة أو أهداف التنمية الدولية؛ وإقامة المآتم والنواح على تلوث البيئة والدعوة الى الأستثمار الأخضر والطاقة الشمسية في العراق !؛ ثم تضاف الى  تلك الّلمة قصيدة عن حقوق الأنسان والمرأة والشراكة والمشاركة والبنك الدولي والصندوق والبرنامج الأنمائي ويونامي وغيرها كثير... واشارة خجولة الى التنمية الأقتصادية، في بحر بلا ضفاف، بشرط عدم إثارة قضية التصنيع، وتجنب التذكير بالحساب الأقتصادي للنمو ومقتضياته.

  ولا شك ان الخطاب السياسي يجد صدى اوسع وحماس أشد في الشكوى من التفاوت والأستئثار والأنتفاع غير المشروع بالمال العام. بينما تُهمل الجهود المضنية في محاولة تطوير الأستثمار العام واستكمال البنى التحتية والتصنيع، ولا يجد الحساب الأقتصادي للنمو على المستوى الوطني والتغيرات البنيوية الملازمة وشروطها ومساراتها الممكنة فسحة للحضور الفعال. وحتى تطوير الأدارة الأقتصادية بالمعنى المنظّم بعيد عن الأذهان، ولا يتناسب مع الادعاء بالأسف للفشل والعجز في كل مناسية. أو كأن الدولة مكتملة ونظام عملها لا يُمثّل عقبة في الطريق، المسألة فقط لأن السلطة تولاّها غيره أو غيرهم. 

وقد عرض الكثير من محترفي الشأن العام براعتهم لقيادة الأصلاح والفكر الثوري والتنوير في الفضائيات، والتواصل الاجتماعي، وفي ذات الوقت ممارسة مختلف اشكال التواطؤ مع التخلف والفساد في المنتديات المغلقة للنخبة ودوائر القرار. 

ان الأعلام السياسي والمسبقات الأيديولوجية، وشيوع التسطيح، قد أثّرت بالفعل في سلوك كثرة من شاغلي المواقع العليا في الدولة والوسط السياسي. حتى صار التذكير بالحقائق النمطية والعلاقات الضرورية بين عناصر الموضوع، أيا كان، يواجَه بالأزدراء بل ويقترن بالسذاجة وضيف الأفق. 

لقد كان نمو الناتج المحلي الأجمالي، الدخل الكلي مع الأندثار، في العالم 3.49% سنويا للمدة 1960-2018 ونمو متوسط الناتج للفرد 1.86% سنويا تلك المدة بأكملها. بمعنى ان الدولة التي متوسط الناتج للفرد فيها 4000 دولار تحتاج 50 سنة كي يصل الى 10000 دولار، ولا زالت ضمن فئة الدخل المتوسط ودون متوسط الناتج المحلي للفرد في العالم عام 2018، والذي يقدر 11313 دولار، اليس في هذا من التحدي ما يستفز الشعوب ويستنهض إرادتها لو توجه صنّاع الراي العام للعناية بهذه الحقائق.

  بلغ متوسط الناتج للفرد في العراق 5834 دولارا بضمنه النفط عام 2018، ويعادل 7% من نظيره في سويسرا، و9.3% من مستوى الولايات المتحدة، و52% من متوسط الناتج للفرد في العالم بأكمله وبصفته كيانا واحدا. فكم سنة يحتاج العراق كي يصل الناتج للفرد الى 20000 دولار، مثلا، وهو اقل من ثلث متوسط الناتج للفرد في الولايات المتحدة، وأدنى من ربع المستوى في سويسرا، حاليا. لنفترض ان 55% من الناتج العراقي عام 2018 من غير النفط، وسوف ينمو بالمعدل الذي انجزته كوريا الجنوبية وهو 7.35% سنويا للمدة 1960-2018. وعلى فرض انخفاض نمو السكان في العراق الى 2% سنويا وهو حاليا في نطاق 2.7%، يكون نمو متوسط الناتج غير النفطي للفرد حوالي 5.2% سنويا. وعلى هذا الأساس بعد ثلاثة عقود أي عام 2050 بصل متوسط الناتج غير النفطي للفرد في العراق الى 14872 دولار. ولنفترض أيضا ان مورد النفط بالأسعار الحقيقية للفرد سينمو بمعدل 2% سنويا، أي نمو الايراد الحقيقي الكلي بأعلى من 4% وهو أزيد من وتيرة نمو الطلب العالمي على النفط بمعنى توقع زيادة في اسعاره تفوق معدل التضخم في العالم.  لذا سيكون مورد النفط للفرد آنذاك 4765 دولارا. وبذلك يصل متوسط الناتج للفرد 19637 دولارا للفرد وللتقريب الأيضاحي 20 ألف دولار. ومثل هذا الأنجاز التنموي الفريد، المتخيل، لا يكفي لأيصال العراق الى ثلث المستوى الأمريكي الحالي، وقد يضعه اعلى من متوسط الناتج للفرد في العالم آنذاك، لكنه دون عتبة الدول المتقدمة بمسافة. تلك التصورات متفائلة ومع ذلك لا تكفي لأرضاء تطلعات الفقراء المشروعة الى الرفاه.  ومن الصعب على ذوي الضمائر الحية التقصير عن بذل اقصى الجهود لحماية الأجيال القادمة من عذاب التخلف والحرمان.

يسمع الكثير من العراقيين عن الأستراتيجيات والسياسات التي تقترحها الأحزاب والحكومات وكتاب وآخرون، لكنها لا تعتمد حسابا منهجيا واضحا. ومن الصحيح القول ان العمليات الأقتصادية اجتماعية، ولها مضامين سياسية، وهي كانت وستبقى موضوعا للأحكام المعيارية. لكن ذلك كله لا ينفي ان حقائق الأقتصاد كمية وتحكم عناصره علاقات ضرورية وانماط تتكرر، ومسلمات ومتطابقات. وتتحرك متغيرات الأقتصاد عبر الزمن ضمن نطاق من التناسبات التي يتعرف عليها تدريجيا من اشتغل مدة كافية في التحليل الأقتصادي الكمي. 

لا زالت وزارة النفط تعلن احتياطيات النفط الخام 143 مليار برميل ولتكن 150 مليارا، ربما تُكتشف احتياطيات إضافية ولا يستبعد ذلك. وتريد الوزارة إيصال الأنتاج الى 8 مليون برميل يوميا نهاية العقدين القادمين، ولم أعرف الأسس التي قادتهم الى ذلك الهدف، ولا أعترض عليه فقد توصلت الى مثله من قبل. 

ان القيمة الحالية لتلك الثروة النفطية على فرض صافي دخل 50 دولار للبرميل وسعر خصم 6% سنويا تعادل اقل من 2 ترليون دولار لواستنفدت تدريجيا في 57 سنة. ولو كان متوسط الدخل للفرد في العراق مثل الولايات المتحدة الأمريكية فإن القيمة الحالية لتلك الثروة أدنى من الدخل القومي لسنة واحدة لدولة سكانها 40 مليون نسمة، هكذا تفهم حقائق الأقتصاد. في الحسابات التي أجريتها لأعداد نمو الأقتصاد العراقي حتى عام 2040 تبيَّن واضحا ان العراق سوف يواجه المزيد من عجز الموازنة العامة، وسوف يصطدم بقيد ميزان المدفوعات لعدم كفاية العملة الأجنبية بعد سنوات قليلة. كم هي الأيرادات غير النفطية التي يحتاجها العراق، والعملة الأجنبية الأضافية من صادرات غير نفطية كلاهما مقدّر مع إيضاح الأسس التي استند اليها.

المسألة الأهم هي في عدم إمكانية تجنب الأزمة الخانقة دون المباشرة العاجلة بالتصنيع الموسع. كيف ينظّمّ ذلك الجهد وتوزيع الأدوار بين القطاع العام والخاص؛ وكم هو الأستثمار المطلوب للتصنيع والبنى التحتية وعموم الأقتصاد غير النفطي، والنفط. ما هو معدل نمو القوى العاملة الموظفة في الأقتصاد ونمو انتاجيتها، ومتوسط راس المال للعامل. وأيضا، كيف يُنسّق التصنيع مع مجمل قطاعات انتاج السلع وانشطة الخدمات. وما هي فرص تعديل بنية الأنتاج والتشغيل ... مثل هذه الأسئلة والأجابة عنها تسهم في تغذية الوعي التنموي وروح الشراكة الوطنية في المهمة الكبرى. أما خطابات التعصب الحزبي والتي تسمى ظلما فلسفة وحقائق كبرى متعالية على التاريخ، فهذه لا تنفع. 

التنمية الأقتصادية في اساسها مراكمة راس المال العيني، الأنتاجي، ومعدل التراكم السنوي والذي يسمى تكوين راس المال كان بنسبة 25.3% سنويا من الناتج المحلي الأجمالي لنفس السنة في العالم للمدة من عام 1970 الى 2018. وتلك السنوات كان المتوسط في الدول النامية ضمن الشريحة العليا متوسطة الدخل 29.8 % أو تقريبا 30%. علما ان مضاعفة الطاقة الأنتاجية، وبالتالي الدخل تتطلب راس مال إضافي يتراوح بين 3.5 الى 4.5 مرة بقدر الناتج، الدخل، وهكذا يفهم وحسب هذه العلاقة ان مضاعفة الناتج تستغرق عملية تراكم لراس المال يستغرق من 12 الى 18 سنة بالمتوسطات التي بينتها التجربة العالمية، ولذلك وصفنا التصورات آنفا لتنمية إقتصاد العراق متفائلة. لكن يمكن زيادة نسبة الأستثمار، تكوين راس المال، من الناتج مع بذل الجهود لترقية الكفاءة بالتقدم التقني والتنظيمي، ومن خلال خفض تكاليف تكوين راس المال ذاتها، للوحدة المستهدفة من الطاقة الأنتاجية أو سعة البنى التحتية، وذلك لتسريع النمو الأقتصادي. وهذا لا يتحقق دون بيئة تحترم الحساب الأقتصادي وفسح المجال لمواصلة التركيز الذهني لدى دوائر القرار ومؤسسات الأبحاث لخدمة مثل هذه الأهداف النبيلة. ان الدعوة التي لم تلق تأييدا من ذوي الكلمة المسموعة لتطوير التشكيلات المسؤولة عن إعداد وإدارة المشاريع لا تنحصر أهدافها بمكافحة الفساد المالي في دوائر عقود المقاولات والتجهيزات، إنما للعناية خاصة بالتكاليف مع ارتباط وثيق بالتكنولوجيا والتنظيم لمراحل العملية التي تُفضي الى إقامة البنى التحتية والوحدات الأنتاجية الجديدة. 

 من بين اسباب عدم الأستجابة ان الأبعاد التقنية لمفهوم الكلفة ليست واضحة في الأذهان، وأيضا علاقة الكلفة بالكفاءة التي هي الرافد الرئيس للنمو الأقتصادي وهو الوحيد، تقريبا، في نهاية المطاف. 

تجاوز الأعاقات لأنطلاق التنمية الأقتصادية ثم مواصلتها، وعبر التصنيع، تتطلب، موضوعيا، الأنتقال الى الدولة التنموية والمطلوب ايضا عدم المبادرة الى تحويل هذا المفهوم الى قائمة الشعارات الأستعراضية. وفسح المجال بروح المسؤولية لتهيئة أجواء تعاون بين خبراء وآخرين مؤثرين في الوسط السياسي إذ قد تسمح المدة القريبة القادمة لتحرك يساعد هذا المسعى.  

هذه إشارات عسى ان يُلتفت الى اهمية التأكيد على الحضور الدائم للحقائق القابلة للقياس والأحتكام الى الوقائع والتحليل المنهجي لشحذ الهمة من أجل التنمية التي تنفع الفقراء وتخدم العدالة ومستقبل أجيال العراق.

التعليقات